Translate

الخميس، 21 سبتمبر 2023

نشأة ظاهرة العلاج بالإيحاء والرقية:


إن فهم العلاقات المتبادلة والراسخة بين الجسم والنفس يجعلنا ندرك أهمية العلاج النفسي أو ما يسمى بالطب الروحاني. والطب النفسي البدني هو الذي يبحث في العلاقات المتبادلة بين الجسم والنفس وفي تطبيق (الانفعالات) وغيرها من العومل النفسية على مشاكل المرضى. وإن الدوافع الابتدائية يمكن أن تتظاهر بالتساوي في العقل وفي الأعضاء ، كما يمكن للقلق أن يصيب الأعضاء بآليات مختلفة.... وهكذا فان التأثرات بين العضوية والنفس من الأمور البديهية.
فالانفعال والنشاط الروحي وحتى درجة الذكاء يمكن أن تتبدل في سياق الأمراض العضوية المختلفة، يدل على ذلك ما نشاهده من همود وكآبة عند المصابين بعلل معدية ـ معوية أو تناسلية ـ بولية، وكذا الهذيان عند المصابين بالحمى الشديدة .
وعلى العكس فالحالة النفسية تؤثر في العضوية من غير شك، فالانفعال قد يؤدي إلى البوالة أو الإسهال أو توقف الهضم، وحتى أنه يطفيء عند بعض الناس إمعان الفكر في بعض الأمور حتى تحدث عندهم حركات تدل على مجرى الحركة النفسية عندهم.
وكثيراً ما يتبدل المشهد بتأثير الانفعال النفسي ؛ومن هنا شاعت طريقة المعالجة النفسية على الإقناع لشفاء كثير من العلل الوظيفية والعصبية.
وقد تبين أن للعوامل النفسية أثر عظيم في إحداث العلل العصبية الوظيفية وفي الشفاء منها أيضاً، وفي طليعة هذه العوامل (الانفعال) وما يحدث من أثر سيء في سير الوظائف الفسيولوجية في أنحاء البدن كافة والذي يفضي أحياناً إلى اضطراب في أحد أجهزة البدن قد يستمر ويكون باعثاً حقيقياً لإحداث علة عضوية ثابتة (قرحة التوتر الشرياني).
فالقلق مثلاً قادر على الإخلال بالوظائف الفسيولوجية وعلى إحداث أعراض بدنية ـ نفسية، إذ يمكن للقلق الحاد أن ينبه مثلاُ الجملة العصبية الودية ( ( sympathic nervesمؤدياً إلى تشنج البواب أو الفؤاد أو المعي، كما يمكن أن يحدث زيادة في الحموضة المعدية أو إسهالاً أو إمساكاً أو خفقان في القلب أو خوارج انقباض أو ضيقاًُ تنفسياً أو تعرقاً في الوجه واليدين.
ويقصد بالمعالجة الروحية أو النفسانية طمأنة المريض ورفع معنوياته والإيحاء إليه بأن مرضه سيسير عاجلاً نحو الشفاء.
وقد أكد الدكتور عبد العزيز القوصي فى كتابه "أسس الصحة النفسية". (أن أثر الإيحاء في الحالات الجسمية أمر معلوم ، ففكرة الصحة أو المرض يمكن أن تؤدي إلى الصحة أو المرض. ويرجع قسط كبير من نجاح العلاج الدوائي إلى ما يصاحبه من إيحاء بالشفاء .وإذا توفر الاعتقاد ـ أمكن الوصول إلى الشفاء دون أخذ الدواء)
وقد أثبت الأطباء أن للإيحاء فوائد علاجية في كل من الأمراض العضوية والوظيفية والنفسية.
ففي الأمراض العضوية يفيد الإيحاء في عزل العنصر النفسي الذي يزيد في المظاهر المرضية ويشوش على الطبيب الصفحة السريرية ما قد يضلله في التشخيص.
كما ثبت أن الإيحاء قد يشفي أمراضاً عضوية بحتة كما هو معروف عند أطباء الجلد من شفاء الثآليل بالإيحاء.
أما في الاضطرابات الوظيفية فإن فائدة الإيحاء تكون أقوى، ومن أمثلتها معالجة بعض أنواع الخفقان والصداع وسوء الهضم والإمساك وفي معالجة أقياء الحمل المعندة (كما هو ثابت عند الأطباء المولدين).
يقول الدكتور شوكت القنواتي: (ومما تجدر الإشارة إليه العلاقة الوثيقة بين الجهازين الودي والعصبي الدماغي مما يعلل دور الإيحاء في شفاء أقياء الحمل المعندة والخطرة . وتقوم المعالجة النفسية بالإيحاء على عزل المريضة تماماً ثم بالتظاهر مثلاًُ بوجود انحراف في الرحم سيعمد المولد إلى رده أو اقناعها بأن لدى المولد طريقة لا تخيب سيطبقها لها، وكثيراً ما تكفي المعالجة النفسية هذه في شفاء تلك الأقياء).
أما فائدة الإيحاء في الأمراض النفسية فهي أعظم وأجل، إذ يعتبر في عداد أدويتها القيمة والناجعة وخاصة تلك الحالات الناجمة عن القلق. وحديثا يعتبر التحليل النفسي من العلاجات المهمة للآفات النفسية.
وفي هذا المجال يقول الدكتور النسيمي: (وإن المعالجة الروحية في الطب الإسلامي إنما تعتمد على القرآن والأدعية المأثورة. وتشترك الرقى مع الإيحاء ببعض الشروط والظروف، ويعتبرها المسلمون استغاثة بالله تبارك وتعالى واستمدادا للعون منه).
إن فعل الرقى كعلاج يختلف بحسب درجات الإيمان واليقين وصفاء النفس وخاصة عند الراقي، وحسب درجة الالتجاء والتذلل والرجاء من الله تعالى حين الرقية، وعلى حسب اعتقاد المرقي بالرقية وثقته بأهلية الراقي وإخلاصه هذا.
ويعلل الدكتور النسيمي النتائج الحسنة للرقى الإسلامية بأحد أمرين: الإيحاء والمعونة الإلهية، أو بكلا الأمرين معاً.
1ـ الإيحاء:
وبه ترتفع معنويات المريض وتخف الأعراض ويشعر بالتحسن أو يشفى، و يقر الطب الحديث أثر الإيحاء في الشفاء بدون شك.
يقول ابن القيم: (وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء ولكل شيء ضداً، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقي فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء فتقوى نفس المرقي وقوته بالرقية على ذلك الداء فيدفعه بإذن الله ... وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى كانت الرقية أتم)
2ـ المعونة الإلهية:
يعتقد المسلمون بمعونة الله القادر على كل شيء والتي يقدمها سبحانه استجابة لدعوة المضطر، الصادرة من أعماق نفسه، أو معونة لعبده الصالح الذي رجاه، يقول تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).
وبقدر ما يكون الراقي كامل الإيمان، قوي العزيمة، صادق اللجوء إلى الله، بقدر ما تكون رقيته ناجعة بإذن الله. ولقد نقل ابن حجر عن الإمام ابن القيم قوله: (الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هى الطب الروحاني، إذا كانت على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى).
ويعتقد المسلمون أن الرقية قد تنفع وحدها بدون دواء مادي، وذلك لعدم تيسر الدواء المادي أو فقدانه أو فشله. وإن يقين الراقي بالله تعالى وصدق رجائه منه حين الرقية، وثقة المرقي بالله ثم بالراقي يزيد من إمكانية الشفاء. ويستحسن تكرار الرقية لعدة أيام.
هذا وإن شفاء اللدغ بالرقية لأكبر دليل على وجود أمر زائد عن الإيحاء وحده، لأن الإيحاء لا يكفي في شفائها فهو يزيل المخاوف والقلق حول نتائج اللدغة.
ويرى د.النسيمي أن من أسباب فشل المعالجة بالرقى، حين فشلها، أن يقصد المريض إهمال الدواء المادي، المتيسر له، والمعروف فائدته لمرضه. ففي ذلك الفشل تأديب من الله تعالى للمهمل. ولأنه في إهماله هذا ترك للأخذ بالأسباب، وكأنه بذلك يعترض على الحكمة الإلهية في خلق الأدوية المادية التي هي سبب الشفاء، فتودى به القدرة الإلهية الى خيبة رقيته. وما أجاز الإسلام الرقي، بحال من الأحوال، لتحل محل الدواء المادي كما ثبت من فعل رسول الله e وسلوكه في صحته ومرضه، ولكن لتكون تذكيراً بالله ودعماً نفسياً لروحه لبلوغ أفضل النتائج العلاجية.
ولقد تكلم علماء المسلمين منذ القديم على أهمية الأدوية الروحية الداعمة للأدوية المادية فقال ابن القيم: (نبه الإسلام المريض على أدوية روحانية يضمها إلى الأدوية المادية المتوفرة، وتشمل اعتماد القلب على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه والتذلل والصدقة والدعاء والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف. وهذا جاء على قانون الحكمة الألهية وليس خارجاً عنها ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء ومدير الطبيعة ومصرفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرىغير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه، غير المرضي عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت، وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره.
وهذا الذي تكلم عنه ابن القيم، تحدث عنه الدكتور بول آرنست آدولف في كتاب (الله يتجلى فى عصر العلم) حيث يقول": (د لت الإحصائيات أن 80% من المرضى في جميع المدن الأمريكية، ترجع أمراضهم إلى حد كبير على مسببات نفسية وعصبية. ومما يؤسف له أن كثيراً ممن يشتغلون بالعلاج النفسي يفشلون لأنهم لايلجأون إلى بث الإيمان بالله في نفوس المرضى مع أن الأديان جاءت لتحريرنا من هذه الاضطرابات وإن تسليمي بالنواحي الروحية إلى جانب إلمامي بالمادة العلمية يمكنني من علاج الأمراض علاجاً يتسم بالبركة الحقيقية).
وختاماً نقول أن الإسلام كما أمر بالتداوي بالأدوية الحسية المادية والأخذ بالأسباب العلمية فإنه رغب بمشاركتها بالأدوية الروحانية من رقى بكلام الله العزيز وأدعية مأثورة بل وجعل نبي الله الدعاء ضرب من العبادة فقال: (الدعاء مخ العبادة) حتى يتذكر المريض خالق الداء والدواء، وتبقى عقيدة التوحيد خالصة له سبحانه وتعالى في الصحة والمرض، مما يجعل روح المريض هادئة متفائلة بالتجائه إلى رب الأرباب، فيقوى صبره، وتغيب الوساوس والمخاوف والأوهام وترتفع معنوياته وينمو أمله بالشفاء. مما يؤدي إلى ازدياد مقاومته فعلاً وتختفي أعراض الاضطراب النفسي ويبدو التحسن بالطبع حتى في أعراض مرضه العضوي أو الوظيفي ويتم الشفاء أحياناً فيهما معونة من الله وفضلاً ... (5)
كلمة أخيرة
يقول الدكتورعبد الله بن محمد السدحان فى مقدمة كتابه (قواعد الرقية الشرعية): لم يكن المجتمع الإسلامي الأول في حاجة إلى علم الرقية الشرعية لأنهم كانوا يمارسون الأذكار جل وقتهم حتى أن بيوتهم لأشبه بدوي النحل ، أما في وقتنا الحاضر فقد كثرت مغريات الحياة وصارت هي شغل الناس الشاغل ، ونقضت كثيرٌ من عرى الإيمان ، وقلت الأذكار، وحينئذ وجد الشيطان فرصته السانحة للانقضاض على القلوب الفارغة من ذكر الله ، فكثر المس الشيطاني وعجز الطب عن العلاج ، وانتشرت المصحات النفسية ، فطرق كثير منهم أبواب السحرة والمشعوذين ولكن دون جدوى ، فقام بعض الرقاة بفتح أبوابهم للرقية الشرعية وانفتح لهم باب أمل بعد يأس أ.هـ.(6)
يقال أن كليم الله موسى عليه السلام سأل ربه قائلا: " يارب أليس الشفاء من عندك ؟" قال : "بلى" قال :"فماذا يصنع الأطباء؟" فقال الله سبحانه وتعالى :"يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادى حتى يأتى شفائى أو قضائى".

مقتطف من "الرقية الشرعية معالجات نفسية يقرها الطب الحديث"
إعــداد
دكتور محمد محمد السقا عيد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق